يقدّم هذا المقال أفكاره استنادًا إلى بحث أعدّه ليزلي بيرلو وساري مينتسر وسالفاتوري أفينيتو حول علاقة الوقت بالرضا عن الحياة لدى المهنيين شديدي الانشغال.
تُظهر أبحاثهم التي نشرتها مجلة هارفارد بيزنس ريفيو أن الإنسان يحتاج ثلاثة عناصر حتى يشعر بأن حياته مُرضية: الإنجاز، المعنى، والفرح اللحظي. يغذي العمل والأسرة العنصرين الأولين بدرجات متفاوتة، بينما يفلت الفرح من قبضة كثيرين، خصوصًا حين يلاحقون مهام العمل وشؤون البيت بلا توقّف. تُجسّد قصص مثل ماريا وتيم هذه المشكلة: جداول فائضة بالواجبات، تخطيط محكم، إنجازات كثيرة… وفرح قليل يكاد يختفي من التفاصيل اليومية.
العنوان الجانبي الأول: ضيق الوقت.. والعبرة ليست في عدد الساعات
يُظهر تحليل بيانات ١٥٠٠ خريج من هارفارد أن المشاركين يقضون نحو ٥٠ ساعة أسبوعيًا في العمل و١٢ ساعة في مسؤوليات البيت. بعد خصم النوم والطعام والمواصلات، يظل أمامهم ٢٦ ساعة “حرّة” فقط أسبوعيًا. لكن المدهش أن طريقة استخدام الساعات أهم بكثير من عددها.
يستمتع الناس بوقتهم أكثر خارج إطار العمل والواجبات المنزلية، لكن حتى تلك الساعات القليلة لا تُستخدم بفعالية. الشخص المتوسط لا يعيش سوى ١٠ ساعات سعيدة فقط من أصل ٢٦ ساعة حرّة أسبوعيًا. ويتكرّر النمط بين شرائح مهنية مختلفة: الالتزام بتحقيق الإنجاز وإشباع المعنى يسيطر، بينما يُهمَل الفرح في الخلفية رغم أنه عنصر أساسي في الاكتفاء الذاتي.
العنوان الجانبي الثاني: قوة العلاقات والأنشطة النشطة
تكشف الدراسات الممتدة لعقود أن العلاقات الداعمة هي أقوى مؤشرات الرضا عن الحياة. في دراستنا ارتفع شعور المشاركين بالفرح كلما شاركوا الآخرين لحظات وقت الفراغ، سواء كانوا اجتماعيين أو منطويين. حتى مشاهدة التلفاز تتحول إلى تجربة أكثر دفئًا حين يشاركهم أحد أفراد الأسرة.
لكن الانشغال بالتنسيق والزيارات قد يرهق البعض، ومع ذلك تُظهر النتائج أن مكاسب التواصل تفوق تكلفته.
على الضفة الأخرى، يُظهر الباحثون أن اللجوء للأنشطة “السلبية” مثل التصفح العشوائي أو الجلوس أمام التلفاز يقلل الرضا. الأنشطة “النشطة” — كالرياضة والهوايات والتطوع — تعطي دفعة أعلى للفرح. سجّل المشاركون ٢.٤ من ٣ في الأنشطة النشطة مقابل ١.٧ فقط في الأنشطة السلبية. لذلك ترفع الحركة والاهتمام الفعلي بجودة الوقت مستوى السعادة بدرجة أوضح.
العنوان الجانبي الثالث: اتّباع الشغف.. مع تنويع الأنشطة وحماية الوقت
يظهر في الأدبيات النفسية أن الاستقلالية الداخلية — أن يختار الفرد نشاطًا لأنه يحبّه — تُضاعف الرضا. وفي الدراسة يتضح أن الأنشطة التي تعبّر عن قيم الشخص تضاعف السعادة أربع مرات مقارنة بالأنشطة “المفيدة نظريًا” التي لا تعبّر عنه. نموذج صوفي مثلًا يكشف كيف قادتها الصدفة لاكتشاف شغفها الحقيقي بتنظيم المساحات بدل “الهوايات المناسبة” التي لم تُسعدها أبدًا.
مع ذلك، الإفراط في نشاط واحد يضعف أثره. التنويع يعيد للوقت حيويته ويقاوم التكرار المُفرغ للمتعة.
تواجه كثير من النماذج المهنية مشكلة أكبر: العمل يتسلّل إلى كل الفراغ. لكن الأدلة تُظهر أن الانفصال الذهني عن العمل يحسّن الصحة والالتزام الوظيفي. ساعتك الإضافية في العمل تُنقص الفرح… بينما تمنحك الساعة نفسها في لقاء مع صديق أو في هواية بسيطة دفعة سعادة محسوسة. قصة جين تلخص ذلك: حين فقدت عملها وجدت أن الوقت الذي خصّصته للفرح جعلها أكثر قوة حين عادت لمهنة جديدة، وأقدر على الحفاظ على رفاهها وأسرتها وعلاقتها بعملها.
تتداخل مجالات الحياة حتمًا: ضعف جودة وقت الفراغ ينعكس على الطاقة والرضا في العمل، بينما الاستثمار الواعي في لحظات الفرح — مهما كانت قليلة — يخلق دائرة إيجابية توسّع المعنى والنجاح. تُظهر النتائج أن من يحيون لحظات فرح أعلى يجدون قيمة أكبر في أعمالهم ويرون حياتهم أوضح وأكثر توازنًا.
ليس المطلوب ساعات إضافية ولا التخلي عن الطموح، بل القدرة على حماية الوقت، وتنويع الأنشطة، وإعطاء مساحة لاهتمامات صادقة تُشعل شرارة الفرح في اليوم العادي.
https://hbr.org/2025/07/how-the-busiest-people-find-joy

